بسم الله الرحمن الرحيم
تقديم البحث :
كانت حادثة رقاد فتية الكهف ، من الدلالات الحسية للأمم السابقة ، ووردت قصتها في القرآن الكريم ، بمطلع سورة الكهف . والقصة بذلك خرجت من إطار القصص في كلام الناس إلى رحاب الآيات البينات ، فهي قرآن يتلى ، لها أحكام القرآن وصفاته وارتباطاته ، وهي كلام الله لا يعتريه النقص أو الاختلاف ، وإنما تتجلى فيها الحقائق والحكم . وفي إطار ذلك أشرنا إلى مكانة القصة في القرآن الكريم ، وارتباطات قصة أهل الكهف بالقصص الأخرى التي وردت في سورة الكهف وبالقرآن الكريم .
وقبل استعراض الهدف الرئيسي الذي وردت له القصة ، وهو إثبات البعث ، لم يغب علينا التنويه إلى أن كتاب الله يعلو ولا يعلى عليه ، فلا يصح أن توضع الأطر لمقاصده ومعانيه ، بفهمنا القاصر وجهدنا المتواضع ، حتى وإن بلغ بنا العلم ما بلغ . فإن للآيات من المعاني والعبر ، ما لا ينتهي للأجيال والأمم ، ويبقى بعد ذلك علم الله الذي لا يدانيه علم البشر .
والبعث قضية غيبية ، أثيرت حولها التساؤلات في عصرنا وفي كل عصر . وإننا إذااستعرضنا آي القرآن الكريم في التدليل على البعث وإثباته ، سنجد أن هناك بناءاً متكاملاً ، يقيم الحجة البالغة من كل جانب . وسنرى من خلال هذا البحث ، كيف كانت قصة أهل الكهف لبنة في هذا البناء .
وسنرى في مثال هذه القصة أيضاً ، تميز أسلوب القرآن الكريم في توجيه الخطاب للناس كافة ، على اختلاف علومهم ومداركهم وعصورهم . كما سنرى كمال القرآن الكريم في اعتبار الفكر البشري ، والأحوال التي يعنى بها الناس .
واستقراءاً لبعض هذه الحقيقة ، وضعنا أمثلة في تدبر بعض عناصر الحدث من رواية القرآن الكريم :
- ومنها سنرى أن الآيات الكريمة ، ابتدرت بتعريف طبيعة الحادثة ، وتحديدها ، وبيان المقصود منها .
- كما سنرى ، كيف عنيت الآيات الكريمة بتحقيق واقع القصة ، وماضيها .
- ثم إثبات الزمان والمكان لها ، وغير ذلك من العناصر التي تثبت القصة في أرض الواقع .
- ثم سنرى كذلك من الآيات ، الرد على الشبهات المثارة ، والتي يمكن أن تثار .
ثم سنرى كيفية استنباط إشارات العلوم والمعارف ، من تدبر آي القرآن الكريم ،
وسنرى أمثلة على استنباط الدلالات من البناء الفريد للآيات :
- في التفصيل بعد الإجمال .
- وفي فصل الأمور ، وتناول كل منها على قدر .
وسنرى على التفصيل ما يجب أن نوقن به ، وأشارت له الآيات ، في أن الحق في هذه الحادثة ، قد جاءت به الآيات الكريمة من القرآن الكريم على التمام والكمال .
-- فسنرى الحقيقة ناصعة فيما لا يصل الناس إليه إلا بالوحي ، ولا يمكن لهم الوصول إليه بعلومهم ومعارفهم .
-- ثم سنرى الحقيقة في تفاصيل الحدث ، التي يُعْنَى بها الناس - على اختلاف عصورهم - في مثل هذه الواقعة ، وتقع بطبيعتها في إطار علومهم ومعارفهم .
بل إننا سنرى أن الآيات قد وضعت منهجاً واضحاً ومفصلاً ، للبحث في كل ما يمت لهذه الحادثة بصلة ، ويقع في إطار علوم الناس ، لتُعرَفَ حقيقته بالمرجعية إلى الحق في القرآن الكريم .
ومن هذا المنطلق ، سنرى أن هذا البحث الذي بين أيدينا ، للتعرف على أحوال الفتية في الكهف بما نعرفه من علوم العصر ، وعلى مرجعية مطلقة للقرآن الكريم ، ليس إلا تحقيقاً ومثالاً على اتباع هذا المنهج .
وفي هذا سنرى الاتباع الدقيق لقواعد التفسير حتى نصل إلى الوجهة الصحيحة في فهم المراد والمقصود من دلالات الآيات الكريمة ؛ ثم سنرى كذلك الالتزام والرجوع إلى مرامي الآيات في تجوالنا للبحث عن الأحوال الممكنة للفتية في الكهف ، من بين أحوال الإنسان المعروفة وطبائعه المعهودة ، حتى نصل إلى الحقيقة في فهم طبيعة هذه الحالة التي كانوا عليها . فإننا بالتحقيق التاريخي ، نرى أن أحوال الفتية في الكهف لم يسبق أن اطلع أو علم عنها أحد من البشر ، ولكن انفرد القرآن الكريم بإثباتها والإعلام بها . وقد صورت الآيات الكريمة هذه الأحوال بعلم ووضوح بالغ ، سنلمس أن وراءه علم الله الذي لا تدانيه علوم البشر . وهكذا سنرى أن أحوال الفتية في الكهف عمود من بين أعمدة إثبات الحدث في القرآن الكريم ، تحققت به الآية ، وقامت الحجة في إثبات وعد الله ، والتدليل على أن البعث حق .
وهكذا ففي تجوالنا بين أحوال الإنسان ، ودلالات الآيات ، سنرى اتفاق دلالات الآيات الكريمة ، مع أدق العلوم والمعارف التي وصلنا إليها عن حياة الإنسان والكائنات ؛ وسنرى دقيق الإحاطة بالمؤثرات الخارجية على الأحياء ، ثم التصور الدقيق للكون والذي لم يُعْرَفْ إلا في العصر الحديث .
وسنرى أن الصورة الحية التي حددت بها الآيات أحوال الفتية في الكهف ، في دقة بالغة وقرب إلى الرؤية والفهم ، كانت وفي نفس الوقت أبلغ ما يكون في تمييز الحالة عن جميع الأحوال الأخرى للإنسان ، بل إننا نقرأ فيها أيضاً العلوم المقارنة بين أحوال الإنسان والحيوان .
ومما يجب التنويه له ، أننا لا نقف أمام الآيات الكريمة لاكتشاف أسرارها ومعرفة العلوم وراءها فحسب ، فليس هذا هو مقام الآيات البينة وكلمات الله العلية ؛ ولا تحدث بذلك الفائدة المرجوة . فليست الدنيا وعلومها غاية الآيات ، وإنما الدنيا مطية الآخرة للحياة الباقية .
فهكذا سيتضح لنا أن معاني الآيات الكريمة لا يحاط بمنتهى علمها ، كما هو الحال في كلام البشر ؛ وإنما لنا في تدبر الآيات واكتشاف السبق والتوافق والتناغم مع العلوم والمعارف ، دلالة صدق هذه الآيات عن الله ، وهو الإعجاز العلمي الذي نسعى إلى بيانه وإبراز إحكامه واتساقه ، كما سنرى على مدى البحث ، ليكون لنا في ذلك إحدى الطرق للإيمان بالقرآن الكريم ، في أنه كتاب الله ، وأنه الذكر الحكيم والصراط المستقيم .
هذا والله أعلم ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم .
وقد نسق البحث في مقدمة وعرض وخاتمة ، تحوي 25 مبحثاً للمواضيع المختلفة .
- مع صور توضيحية ، لإلقاء الضوء على بعض الجوانب العلمية لسهولة تخيلها وفهمها .
- ويلحق ذلك الهوامش للتوسع والبسط في بعض النقاط المرقومة ، والتي وردت في سياق البحث .
- ثم مختصر يلقي الضوء على المعالم الرئيسية لمجموع البحث .
- ويتبع ذلك بيان بالمراجع ، وفي الأخير يأتي الفهرس .
بسم الله الرحمن الرحيم
الإعجاز العلمي للقرآن الكريم في قصة أهل الكهف والرقيم
أولاً/ التمهيد :
أ) لَمْحَةٌ حَوْلَ قِصَّةِ أهْلِ الكَهْف ، ومَكَانَةُ القِصَّةِ فِي القُرْآنِ الكَرِيم :
الحمدُ للهِ ربِ العَالَمِين ، وصَلَى اللهُ عَلَى نَبِينَا محمد ، وعَلَى آلهِ وصَحْبِهِ أجْمَعِين ، وبَعْد
فَقَدْ وَرَدَتْ قِصَّةُ أهْلِ الكَهْفِ والرَقِيم ، فِي مَطْلَعِ سُورَةِ الكَهْفِ المَكْيِّة ، وذَلِكَ فِي الآيَاتِ الكَرِيمَة ، مِنَ الآيَةِ 9 إلى الآيَةِ 27 ، وهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى